بوقت مبكر وتحديدا في 26 /9/2012 ، في محاضرة لي بعنوان " ترسيخ ثقافة الوحدة في ظل الثورات العربية " نظمتها جمعية منتدى الافاق للثقافة والتنمية في مدينة خريبكة المغربية ، قلت ان استخدامي لعنوان الثورات هو تعبير مجازي يساير ما هو شائع من حديث ، والا فان مايجري من هياجات انفعالية يؤشر الى ملامح مؤامرة تخطط لها وتقودها قوى شعوبية حاقدة على العرب والعروبة ، وتنفذها وتمارسها ، للاسف ، قطاعات من الجماهير العربية ، بما يشبه الغفلة والجنون منها ، لتتوجه في غضبها ضد نفسها واوطانها وبما يشبه عملية الانتحار.
كان يمكن التردد في القاء اللوم كليا على هذه الجماهير الهائجة ، لو انها تحركت تحت لواء قوى منظمة ببرامج تنموية واضحة و اعتمدت اطرا ومناهج و سلوكيات ثورية تعكس ولاء حقيقيا للوطن والمصالح الوطنية . لا ان تعتمد سياسة : اهدم فقط واترك الخطوة التالية للمجهول .
صحيح ان الانظمة العربية وماعرف منها بالتقدمية تحديدا لم تحقق شيئا من متطلبات التنمية المطلوبة ، تحكم بها هاجس الخوف من المؤامرة ، واصبح همها هو الحفاظ على امنها الخاص على حساب امن الوطن والمواطن ، اوقفت العمل بالقوانين والدساتير الشرعية ، واستبدلتها بسلطة ومزاجية اجهزة المخابرات والامن الخاص . تلك الاجهزة المتخلفة والمحدودة الخبرات المهنية ، التي ما عرفت غير اسلوب القمع طريقا للتعامل مع مواطنيها وجعلت منهم موضوعا لعدائها متغافلة عن الاعداء الحقيقين .
كانت ممارسات هذه الاجهزة المتخلفة ، مرصودة ومتابعة من قبل اجهزة عالمية معادية تمتلك مؤسسات راسخة وقادرة تمكنها من وضع الخطط الكفيلة في استثمار هذه الاخطاء و التاثير في عقول شبابنا امام ممارسات القهر و العدوانية التي مارستها هذه الاجهزة المتخلفة ، ومن الطبيعي ان يصبح هذا المواطن المسحوق بقهره وذله ، المشغول ليل نهار بالركض وراء توفير لقمة العيش له ولاولاده ، معطل الفكر مسلوب الوعي والادراك ، مشوشا لايعرف الحدود بين العدو او الصديق ، حساس مرهف الشعور امام شعارات تؤثر في عواطفه دون ان يدرك معانيها الحقيقة .
فالملايين التي كانت تردد شعار ( الشعب يريد اسقاط النظام ) لم يتوقف احد منها ليتسائل ، وما هو البديل ، ما المشروع القادم ، ومن يخطط لهذا المشروع ، والى اين يمكن الوصول بهذه الشعارات المبهمة رغم انها تدغدغ المشاعر، الا انها تستغبي العقل ، وهل هي فعلا يمكن ان تحقق خطط التنمية المرجوة التي فشل النظام في تحقيقها .
مقابل هذه العواطف المنفلتة من اي وقفة عقلانية ومنطقية لمحاكمة الامور بروية وتبصر ، كانت هناك مؤسسات ودوائر المخابرات المعادية لكل ما هو عربي تجند مئات بل الاف الخبراء النفسيين والمختصين بعلم النفس وعلم الاجتماع لمتابعة هذه الفوضى المنفلتة من اي حس وطني عقلاني ، تحلل تحركاتها وشعاراتها وتدس من خلال عملاء مدربين شعارات جديد لتدفع هذه الفوضى وتحولها من مطالب للتعبير عن حاجات المواطن وطموحاته الى تحركات معادية للمواطن نفسه وتخريب وتدمير مؤسساته الوطنية التي تعود ملكيتها له هو .
لقد كانت ما ُسمى بثورات الربيع العربي عبارة عن هياج قطعان جماهير مجروحة تدوس على جروحها لتوسع الجرح وتدمي الذات ، تريد ان تخرب كل شئ بلا قيادات او مؤسسات او احزاب وطنية قادرة في ان توجه هياجها بالاتجاهات التي تخدم المصلحة الوطنية او الامن الوطني للبلد . لا توجهات وطنية او عقلانية تحكمها سوى تخريب وتدمير مؤسساته وكانه ليس هو ابن هذه الدولة . كانت تتصرف بعدوانية غريبة غبية ضد نفسها و دولها هي .
القوى الوحيدة المنظمة والقادرة على استثمار هذا الهياج التائه هي قوى الردة والرجعية او ما يعرف بالتاسلم السياسي . المصنعة والمدعومة في اغلبها من قبل دوائر الغرب والصهيونية .
ان جماعات التاسلم السياسي هذه لاتمثل في حقيقتها مدرسة فقهية دينية تمتلك رؤية جديدة للدين او حتى للسيرة الصالحة للسلف الذي تدعي التمسك به، بل هي تجمعات لمحبطين وفاشلين في الحياة ومجانين تتحكم بهم عقد نفسية مرضية ، هائمة في احلام وخيالات وهلاوس تريد بها ارضاء وتطمين حرماناتها الجنسية وتعويض فشلها في الحياة ، وتخفيف حدة ضغط مشاعرالاحساس بالدونية وميولها السايكوباثية و السادية ، وتحسين اوضاعها المعاشية ، بطرق غير مشروعة او مقبولة اخلاقيا او دينيا باضافة مسحة من الدين والشعارات الدينية المبهمة المفرغة من المعنى ، لتغدو اكثر قبولا وتبريرا .فليس شذوذا ان يختزل البيان الاول عن انتصار هذا الهياج التائه في ليبيا ، اهداف هؤلاء المتمردين ب ( السماح بالزواج من اربعة نساء ) كما صرح زعيمهم مصطفى عبد الجليل بذلك ، او ان تتعالى صيحات الله اكبر مرافقة لعمليات ذبح وحشية ضد ابرياء متهمين بالكفر .لاخطط تنمية ولا برامج سياسية واقتصادية ، بل النساء الاربعة ، ومن مات من ال50 الف ضحية سيعوضه الله عن الاربعة بسبعين حورية كل حورية عندها سبعين وصيفة ، ولتسقط ليبيا وتتمزق وليحتل الاجنبي اراضيها وينهب ثرواتها ، فهي ليست اغلى من امتياز وحيازة النساء الاربع .
تعرف الغرب على الخصائص العامة لتجمعات الفاشلين والمرضى هذه ، وتمكن من السيطرة عليها ، وتنظيمها وتوجيهها بالاتجاه الذي يخدم مصالحه ، مستفيدا من خبرات سابقة عاشها في دول الكتلة الشرقية السابقة ، ومعارك يوغسلافيا السابقة .
حاولت الجماعات المتاسلمة ، الجماعات المنظمة الوحيدة والمتاهبة لحرق الاوطان وتزييف الدين ، استثمار هذا الغضب الجاهل بامور السياسة ومفاهيم الامن القومي والمصالح القومية لبلدانها في كل من تونس ومصر ، الا ان سعة حجم الوعي الجماهيري ووجود نخب واعية واسعة في هذين القطرين منع الجماعات المرتبطة بالمخطط الغربي – الصهيوني من المضي في مشرعاتها التخريبية هناك ، واوقفتها عند حدها واحبط ماتخطط لتحقيقه من دمار وتخريب ، ولم يصل انتصارها النسبي الى حد جر البلد الى الاحتراب المجنون .
اعادت القوى الشعوبية المعادية للامة العربية قرائتها لاخطائها في هذين القطرين ، فبادرت الى تعديل خططها في سوريا وليبيا واليمن والعراق ، وتمكنت من تجنيد النخب المحسوبة على اليسار الوطني ، التي كنا نتوقع منها غزارة في الوعي كاف ليؤهلها لاستقراء حقيقة المؤامرة .فكانت صدمة ان تكون اسماء مثل ميشيل كيلو وبرهان غليون وغيرهما من الاسماء المعروفة ، في واجهة الاسماء اللاهثة وراء هذا الهيجان العبثي لا لضبطه او توجيهه بالمسار الوطني الصحيح ، بل الركض ورائه طمعا بكسب الامتيازات الرخيصة من خلال تلك المواقف التي تندرج تحت مفهوم الخيانة ، خيانة الاوطان والجماهير وخيانة الذات وما يدعونه من فكر ووعي .
تلك هي الاطر العامة للازمة بشكل ملخص ، يتناسب مع حجم المساحة الممنوحة لي للكتابة . عناصرها تتلخص :
اولا : انظمة اخطات في التفاعل مع شعوبها وتعاملت مع الوطن كملكية عائلية خاصة ، وعاشت محكومة بهاجس المؤامرة . فكانت مسيرتها مجموعة من الاخطاء التي تُصنع الكره والعداء ضدهاعند قطاعات كبيرة من الشعب .
ثانيا : جماهير واسعة محبطة ويائسة ، وغير منظمة ، تعيش حالة من القلق والاحساس بفقدان الامن ، والخوف من المستقبل ، وهي ترى ان حكوماتها تجرها من فشل الى فشل وعجز فعلي في تحقيق تنمية حقيقية تضمن لها حد ادنى من الاحساس بالامن والاستقرارالنفسي الداخلي ، فكانت فريسة للاستغلال من قوى الردة المنظمة والمدعومة من قبل قوى عالمية كبرى ومحلية مشحونة بالتوجهات الشعوبية الحاقدة على كل ما هو عربي ، كانت مستعدة لتقدم كل الدعم المالي والمعنوي والاعلامي لكل ما هو كاره العرب والعروبة .
كان من طبيعي ان تكون الدول العربية التي شكلت ارادات مستقلة رافضة للسيطرة الغربية ، او تلك الممتنعة عن قبول وجود الكيان الصهيوني ، او الخضوع لشروطه في تحقيق سلام عادل على اساس الاقرار بالحقوق العربية المشروعة ، اي ما عرف بدول محور الرفض والممانعة ، العراق ، سوريا ، اليمن ، ليبيا . هي موضوع لحقد الغرب والصهيونية وحلفائهم المحليين مما يعرف بالدول العربية المحافظة والسائرة في مدارات الغرب المعادية للعروبة . لذلك ايضا اتخذت الاحتجاجات في تونس ومصر صيغا هادئة وسلمية ، لكنها تصاعدت لتتتخذ شكل الصراعات المسلحة في العراق وسوريا وليبيا واليمن، بشكل يستنزف طاقات وقدرات هذه البلدان ، ويدمر قواها الاجتماعية في صراعات غبية مجنونة تعتمد الخلافات الطائفية والتجمعات القبلية التي ما كان لها ان تتصاعد ، وليس هناك ما يبرر تصاعدها بهذا الشكل الدموي القاسي ، بعد تعايش وتفاعل لمئات السنين لتتحول الاوطان وليس الحكام او السلطة موضوعا لعداء هذه الجماعات .
لو اخذنا سوريا مثلا لذلك ، كانت بلدا يقترب من حالة الاكتفاء الذاتي من المنتوجات الزراعية والحاجات الصناعية الضرورية للحياة اليومية للفرد والعائلة ، وكانت في طريقها للانتقال نحو مرحلة الصناعات الثقيلة . بلد تخلص من الديون الخارجية ، ووصل الى مرحلة قريبة جدا من استقلال الكلي والاستغناء عن الحاجة او التبعية للخارج ، متطور تربوبيا وصحيا ، يكاد ينجز كليا المشاريع اللازمة لتوفير حاجاته للكهرباء والماء والمواصلات . جرت العمليات العدوانية للمتمردين بتعمد احتلال مؤسسات الدولة ومراكزها وبناياتها من مدارس ومؤسسات حكومية وخدمية اخرى ، لاعتمادها كمواقع وحصون حربية قتالية تجبر الشرطة والجيش بالرد عليها ، ما يعني تدمير المؤسسة ونهبها . احتلال المصانع الاهلية والحكومية التي تمتد اعمار بعضها الى اكثر من نصف قرن وتفكيكها وبيعها خردة لتركيا وبابخس الاثمان ، تدمير اسلحة الجيش والعمل على انهاكه لاخراجه كليا من دائرة الصراع العربي – الاسرائيلي ، تدمير او تبديد محطات الطاقة الكهربائية او تنقية المياه ، ومصافي النفط ، وغير ذلك ما يعكس حالة جنونية هستيرية من العداء المشبع بالحقد على الشعب والوطن السوري بالذات ، كل ذلك باسم الديمقراطية والدين ، في بلد من الواضح ان المطلوب انهاكه واستنزاف كل قواه وطاقاته العسكرية والاقتصادية والاجتماعية تهيئة لتقسيمه الى دويلات صغيرة بحجم كل واحدة من تلك العصابات المسلحة التي يبدو ان منهجها وبرنامجها مسخ الانسان والبلد بل الغائه ومسحة من الخريطة . كانت المقدمات واضحة منذ البداية من خلال تغير العلم الوطني السوري واعتماد علم عهد الاحتلال ، بل ورفض اضافة صفة العربية على الاسم الرسمي للجمهورية العربية السورية . حتى المدن بدات تتعرض لتغير اسمائها التاريخية ، فمدينة عين العرب التاريخية التي استمدت اسمها تاريخيا من موقعها المطل على السهل شمالها لتكون موقعا لرصد تحركات الدولة البيزنطية والرومانية في عهد الدولة الاموية ، فكانت عينا للعرب ، واستمرت كذلك ليعطوها الان اسم ( كوباني ) الاسم الشعبي لمقر شركة ( كومبني بالانكليزية ) قطار الشرق السريع . تسفيها للهوية والتراث العربي – الاسلامي لسوريا ، وتحضيرا لتغير ملامحها التاريخية والجغرافية . ما يعكس حالة عداء وحقد شعوبي ضد الدولة السورية لا النظام فعلا ، الذي يُرفع اسمه كموضوع او سبب لكل هذا التخريب ، كنوع من التمويه الغبي المراد به خداع الشعب السوري والايحاء بان هذا العدوان والعداء والحقد هو انتفاضة ضد النظام .
الحديث طويل حول سمات المؤامرة وابعادها ، الا ان تشبث الرئيس بشار الاسد بالحكم ، والتفاف هذا الحجم الجماهيري الواسع حوله يشكل احد سمات ومظاهر الانتصار وان طال الوقت قليلا ، فقد اتعب الاعداء بتشبثه وتمسكه بمسؤولياته للدفاع عن وحدة واستقلال بلده ، واستنزف هو بالمقابل طاقاتهم واموالهم الطائلة التي ماكانوا يحسبون انها ستصل الى هذه الدرجة من الكلف العالية ، لذلك غير المتمردون سياستهم التخريبية تجاه حقول ومصافي النفط التي تمكنوا من السيطرة بالحفاظ عليها بدلا من تدميرها او تخريبها للاستفادة من منتوجها وبيعه في السوق السوداء ، باسعار بخسة ، لاغراق السوق بالفائض النفطي غير المنضبط رسميا ، لتحقيق منجز اخر جديد في خدمة مصالح شركات النفط الاحتكارية .غدا النفط العراقي والسوري مبذولا باسعار بخسة تنافس اسعار النفط المتداول بالاسواق العالمية، فكان هذا الانخفاض بالاسعار الذي عاد على الدول ، نفسها ، الداعمة للمخربين ، بالبلاء وانخفاض وارداتها من النفط بنسب كبيرة .
قد يطول الحديث عن الحالة العراقية و الليبية واليمنية كما سيطول الصراع في هذه البلدان، اكثر مما هو في سوريا التي حمت نفسها بفضل تمسك قواتها المسلحة بالثوابت الوطنية ، اما العراق فعمليا تم تقسيمه لدويلات ثلاث ، لكل منها جيشها وميزانيتها الخاصة ، فتم تقويةعصابات الاكراد ، ودعمها تدريبا وتسليحا لتصبح بقوة تضاهي او حتى تفوق قوة الجيش النظامي ، بحجة مواجهة تداعش ، والاعدادات قائمة على قدم وساق لتصنيع الجيش الخاص بالدولة السنية تحت مسمى الحرس الوطني وبحجة ان اهل المنطقة سيكونوا اكثر قدرة على مواجهة داعش ، التي عمل الغرب منها قوة عظمى يحتاج الخلاص منها لسنوات طوال ،ليتسنى لهم من خلال اطالة امد الصراع ، تقوية الجيوش الثلاثة بحيث تصبح متكافئة لمواجهة بعضها البعض واستنزاف اخر منشاة او مؤسسة عراقية وتحويل البلد الى كومة احجار . ودفع الشعب العراقي لقبول الامر الواقع تدريجيا وعلى نار هادئة . ينسب الغرب كل هذا التخريب لقوى محلية من اتباعه اوصلها هو بالقوة الى دكة الحكم بعد اسقاط النظام الوطني فيه . وصنع داعش ولم يتوقف عن دعمها بشكل مباشر او غير مباشر ليجعلها عنوانا للحرب ضد المقاومة العراقية التي ما انفكت تقاتل من اجل الخلاص من الاحتلال وتابعيه وتبعاته من دستور كل ما فيه هو قوانين وقواعد تعكس حالة حقد وعداء للدولة العراقية نفسها ، ومؤسسات شكلها هو لتدمير وتحطيم الدولة العراقية واستنزاف طاقاتها وقدراتها تهياة لتقسيمها عقابا لها لتهديها للدولة العبرية وضربها بالصواريخ .
##